سورة محمد - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (محمد)


        


{أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} تقريرٌ لتباينِ حَالَيْ فَريَقيْ المؤمنينَ والكافرينَ وكونِ الأولينَ في أعلى علّيينَ والآخرينَ في أسفلِ سافلينَ وبيانٌ لعلةِ ما لكلَ منهُمَا من الحالِ. والهمزةُ للإنكارِ، والفاءُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ، وقد قرئ بدونها. ومَنْ عبارةٌ عن المؤمنينَ المتمسكينَ بأدلةِ الدِّينِ، وجعلُها عبارةً عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أو عنْهُ وعنِ المؤمنينَ لا يساعدُه النظمُ الكريمُ على أنَّ الموازنةَ بينه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبينَهم مما يأباهُ منصبُه الجليلُ. والتقديرُ أليسَ الأمرُ كما ذُكِرَ فمنْ كانَ مستقراً على حجةٍ ظاهرةٍ وبرهانٍ نيّرٍ من مالكِ أمرِه ومربّيهِ وهو القرآنُ الكريمُ وسائرُ المعجزاتِ والحججِ العقليةِ. {كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ} من الشركِ وسائرِ المعاصيِ مع كونِه في نفسِه أقبحَ القبائحِ {واتبعوا} بسببِ ذلكَ التزيينِ {أَهْوَاءهُمْ} الزائغةَ وانهمكُوا في فنونِ الضلالاتِ من غيرِ أنْ يكونَ لهم شبهةٌ توهمُ صحةَ ما هُم عليهِ فضلاً عن حجةٍ تدلُّ عليهِ. وجمعُ الضميرينِ الأخيرينِ باعتبارِ مَعْنى مَنْ، كما أنَّ إفرادَ الأولَينِ باعتبارِ لفظِها.
{مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون} استئنافٌ مَسُوقٌ لشرحِ مَحَاسنِ الجنَّةِ الموعودةِ آنِفاً للمؤمنينَ، وبيانِ كيفيةِ أنهارِها التي أُشيرَ إلى جريانِها من تحتِها، وعُبِّرَ عنهُم بالمتقينَ إيذاناً بأنَّ الإيمانَ والعملَ الصالَح من بابِ التقوى الذي هُو عبارةٌ عن فعلِ الواجباتِ بأسرِها وتركِ السيئاتِ عن آخرِها، ومَثَلُها: وصفُها العجيبُ الشأنِ. وهُو مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ فقدَّرهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيلٍ: مثلُ الجنةِ ما تسمعونَ. وقولُه تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ} إلخ مفسرٌ لَهُ وقدَّرهُ سيبويهِ فيما يُتلَى عليكُم مَثَلُ الجنةِ، والأولُ هو الأنسبُ لصدرِ النظمِ الكريمِ، وقيلَ المَثَلُ زائدةٌ كزيادةِ الاسمِ في قولِ مَنْ قالَ:
إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عليكما ***
والجنةُ مبتدأٌ خبرُهُ فيها أنهارٌ إلخ. {مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ} أيْ غيرِ متغيرِ الطعمِ والرَّائحةِ. وقرئ: {غيرِ أَسِنٍ}. {وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} بأنْ صارَ قارِصاً وَلاَ خَازِراً كألبانِ الدُّنيا. {وأنهار مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ للشاربين} لذيذةٍ ليسَ فيها كراهةُ طعمٍ وريحٍ ولا غائلةُ سُكرٍ ولا خُمارٌ، وإنما هيَ تلذذٌ محضٌ. ولذةٍ إمَّا تأنيثُ لذَ بمعنى لذيذٍ، أو مصدرٌ نُعتَ به مبالغةً. وقرئ: {لذةٌ} بالرفعِ على أنَّها صفةُ أنهارٌ، وبالنصبِ على العلَّةِ أي لأجلِ لذةِ الشاربينَ {وأنهار مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} لا يُخالطُه الشمعُ وفضلاتُ النحلِ وغيرُها. وفي هذا تمثيلٌ لما يَجْري مَجرى الأشربةِ في الجنةِ بأنواعِ ما يُستطابُ منها ويُستلذُّ في الدُّنيا بالتخليةِ عمَّا يُنغصها ويُنقصها والتحليةِ بما يُوجبُ غزارتُها ودوامَها. {وَلَهُمْ فِيهَا} مع ما ذُكَر من فنونِ الأنهارِ {مِن كُلّ الثمرات} أيْ صنفٌ من كلِّ الثمراتِ {وَمَغْفِرَةٌ} أي ولهم مغفرةٌ عظيمةٌ لا يُقادَرُ قَدرُها.
وقولُه تعالى: {مّن رَّبّهِمُ} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لمغفرةٌ مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنةٌ من ربِّهم. وقولُه تعالى: {كَمَنْ هُوَ خالد فِى النار} خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ أمَّنْ هو خالدٌ في هذه الجنةِ حسبما جرى به الوعدُ كمن هو خالدٌ في النَّارِ كما نطقَ بهِ قولُه تعالى: والنَّارُ مَثْوىً لَهُم، وقيل هو خبرٌ لَمثَلُ الجنةِ على أنَّ في الكلامِ حذفاً، تقديرُهُ أمثلُ الجنةِ كمثلِ جزاءِ من هُو خالدٌ في النَّارِ أو أمثلُ أهلِ الجنةِ كمثلِ من هو خالدٌ في النارِ، فعُرّيَ عن حرفِ الإنكارِ وحُذفَ ما حذفَ تصويراً لمكابرةِ مَن يُسوي بين المتمسكِ بالبينةِ وبين التابعِ للهوى بمكابرةِ من سوَّى بين الجنةِ الموصوفةِ بما فُصِّلَ من الصفاتِ الجليلةِ وبين النارِ. {وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً} مكانَ تلك الأشربةِ {فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} من فرْطِ الحرارةِ قيل إذا دنَا منهم شَوَى وجوهَهم وانمازتْ فروةُ رؤوسِهم فإذا شربوُه قطَّع أمعاءَهم.


{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} هم المنافقونَ وإفرادُ الضميرِ باعتبارِ لفظِ مَنْ كما أنَّ جمعَهُ فيما سيأتي باعتبارِ معناها. كانُوا يحضُرون مجلسَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيسمعونَ كلامَهُ ولا يَعُونَهُ ولا يُراعونَهُ حقَّ رعايتِه تهاوناً منهُم. {حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم} من الصحابةِ رضي الله عنهُم {مَاذَا قَالَ ءانِفاً} أي ما الذي قالَ الساعةَ على طريقةِ الاستهزاءِ وإن كان بصورةِ الاستعلامِ. وآنِفاً من قولِهم أنْفُ الشيءِ لما تقدمَ منه مستعارٌ من الجارحةِ ومنه استأنفَ الشيءَ وائتنفَ، وهو ظرفٌ بمعنى وقتاً مؤتنفاً. أو حالٌ من الضمير في قالَ. وقرئ: {أَنِفَاً}. {أولئك} الموصوفونَ بما ذُكِرَ {الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} لعدمِ توجههم نحوَ الخيرِ أصلاً. {واتبعوا أَهْوَاءهُمْ} الباطلةَ فلذلك فعلُوا ما فعلُوا مما لا خيرَ فيهِ {والذين اهتدوا} إلى طريقِ الحقِّ {زَادَهُمْ} أي الله تعالَى {هُدًى} بالتوفيقِ والإلهامِ {وءاتاهم تقواهم} أعانهُم على تقواهُم أو أعطاهُم جزاءَها أو بيّنَ لهم ما يتقونَ.
{فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة} أي القيامةَ. وقولُه تعالى: {أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي تُباغتُهم بغتةً وهي المفاجأةُ. بدلُ اشتمالٍ من الساعةَ والمعنى أنَّهم لا يتذكرونَ بذكرِ أهوالِ الأممِ الخاليةِ ولا بالأخبارِ بإتيانِ الساعةِ وما فيها من عظائمِ الأهوالِ وما ينتظرونَ للتذكرِ إلا إتيانِ نفسِ الساعةِ بغتةً. وقرئ: {بَغَتةً} بفتحِ الغينِ. وقولُه تعالى: {فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا} تعليلٌ لمفاجأتِها، لا لإتيانِها مُطلقاً على معنى أنه لم يبقَ من الأمورِ الموجبةِ للتذكِر أمرٌ مترقبٌ ينتظرونَهُ سوى إتيانِ نفسِ الساعةِ إذْ قد جاءَ أشراطُها فلم يرفعُوا لها رأساً ولم يعدّوها من مبادىءِ إتيانِها فيكون إتيانُها بطريقِ المفاجأةِ لا محالةَ. والأشراطُ جمعُ شَرَطٍ بالتحريكِ، وهي العلامةُ والمرادُ بها مبعثُه صلى الله عليه وسلم وانشقاقُ القمرِ ونحوُهما. وقولُه تعالى: {فأنى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} حكمٌ بخطِئهم وفسادِ رأيهم في تأخيرِ التذكرِ إلى إتيانِها ببيانِ استحالةِ نفعِ التذكرِ حينئذٍ كقولِه تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى} أي وكيفَ لهم ذكراهُم إذا جاءتْهُم على أن أنَّى خبرٌ مقدمٌ وذكراهُم مبتدأٌ وإذا جاءتْهُم اعتراضٌ وسطٌ بينهما رمزاً إلى غايةِ سرعةِ مجيئِها وإطلاقُ المجىءِ عن قيدِ البغتِه لما أن مدارَ استحالةِ نفعِ التذكرِ كونُه عند مجيئِه مطلقاً لا مقيداً بقيدِ البغتِة. وقرئ: {أنْ تأتِهم} على أنَّه شرطٌ مستأنفٌ جزاؤُه فأنَّى لهم إلخ. والمعنى إنْ تأتِهم الساعةُ بغتةً لأنه قد ظهرَ أماراتُها فكيفَ لهم تذكرُهم واتعاظُهم إذا جاءتْهُم.


{فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلا الله} أي إذا علمتَ أنَّ مدارَ السعادةِ هو التوحيدُ والطاعةُ ومناطَ الشقاوةِ هو الإشراكُ والعصيانُ فاثبُتْ على ما أنتَ عليه من العلمِ بالوحدانيةِ والعملِ بموجبِه. {واستغفر لِذَنبِكَ} وهو الذي رُبَّما يصدرُ عنه عليه الصلاةُ والسلامُ من تركِ الأَوْلى، عُبِّر عنه بالذنبِ نظراً إلى منصبِه الجليلِ، كيفَ لا وحسناتُ الأبرارِ سيئاتُ المقربينَ وإرشادٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى التواضعِ وهضمِ النفسِ واستقصارِ العملِ. {وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} أي لذنوبِهم بالدعاءِ لهم وترغيبِهم فيما يستدعي غفرانَهم. وفي إعادةِ صلةِ الاستغفارِ تنبيهٌ على اختلاف متعلّقَيه جنساً، وفي حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليهِ مُقامَهُ إشعارٌ بعراقتِهم في الذنبِ وفرطِ افتقارِهم إلى الاستغفارِ. {والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ} في الدُّنيا فإنَّها مراحلُ لا بُدَّ من قطعِها لا محالةَ. {وَمَثْوَاكُمْ} في العُقْبى فإنَّها موطنُ إقامتِكم فلا يأمرُكم إلا بما هو خيرٌ لكم فيهما فبادِرُوا إلى الامتثالِ بما أمركُم به فإنه المهمُّ لكم في المقامينِ وقيل يعلمُ جميعَ أحوالِكم فلا يَخْفى عليه شيءٌ منها.
{وَيَقُولُ الذين ءامَنُواْ} حرصاً منُهم على الجهادِ {لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ} أي هلاَّ نزلتْ سورةٌ نؤمرُ فيها بالجهادِ {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال} بطريقِ الأمرِ به أي سورةٌ مبينةٌ لا تشابَه ولا احتمالَ فيها لوجهٍ آخرَ سوى وجوبِ القتالِ. عن قَتَادَة. كُلُّ سورةٍ فيها ذكرُ القتالِ فهيَ محكمةٌ لم تنسخْ. وقرئ: {فإذا نزلتْ سورةٌ}، وقرئ: {وذَكَرَ} على إسنادِ الفعلِ إلى ضميرِه تعالى ونصبِ القتالِ. {رَأَيْتَ الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} أي ضعفٌ في الدينِ وقيل نفاقٌ وهو الأظهرُ الأوفقُ لسياقِ النظمِ الكريمِ. {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} أي تشخصُ أبصارُهم جُبناً وهلعاً كدأب منْ أصابتْهُ غشيةُ الموتِ {فأولى لَهُمْ} أي فويلٌ لهم وهو أفعلُ من الوَلي وهو القُربُ وقيلَ مِنْ آلَ ومعناهُ الدعاءُ عليهم بأنْ يليهَم المكروُه أو يؤولَ إليهِ أمرُهم، وقيل هو مُشتقٌ من الويلِ وأصله أَوْيَل نُقلتْ العينُ إلى مَا بعدِ اللامِ فوزنُه أَفْلَعَ.

1 | 2 | 3 | 4