{أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} تقريرٌ لتباينِ حَالَيْ فَريَقيْ المؤمنينَ والكافرينَ وكونِ الأولينَ في أعلى علّيينَ والآخرينَ في أسفلِ سافلينَ وبيانٌ لعلةِ ما لكلَ منهُمَا من الحالِ. والهمزةُ للإنكارِ، والفاءُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ، وقد قرئ بدونها. ومَنْ عبارةٌ عن المؤمنينَ المتمسكينَ بأدلةِ الدِّينِ، وجعلُها عبارةً عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أو عنْهُ وعنِ المؤمنينَ لا يساعدُه النظمُ الكريمُ على أنَّ الموازنةَ بينه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبينَهم مما يأباهُ منصبُه الجليلُ. والتقديرُ أليسَ الأمرُ كما ذُكِرَ فمنْ كانَ مستقراً على حجةٍ ظاهرةٍ وبرهانٍ نيّرٍ من مالكِ أمرِه ومربّيهِ وهو القرآنُ الكريمُ وسائرُ المعجزاتِ والحججِ العقليةِ. {كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ} من الشركِ وسائرِ المعاصيِ مع كونِه في نفسِه أقبحَ القبائحِ {واتبعوا} بسببِ ذلكَ التزيينِ {أَهْوَاءهُمْ} الزائغةَ وانهمكُوا في فنونِ الضلالاتِ من غيرِ أنْ يكونَ لهم شبهةٌ توهمُ صحةَ ما هُم عليهِ فضلاً عن حجةٍ تدلُّ عليهِ. وجمعُ الضميرينِ الأخيرينِ باعتبارِ مَعْنى مَنْ، كما أنَّ إفرادَ الأولَينِ باعتبارِ لفظِها.{مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون} استئنافٌ مَسُوقٌ لشرحِ مَحَاسنِ الجنَّةِ الموعودةِ آنِفاً للمؤمنينَ، وبيانِ كيفيةِ أنهارِها التي أُشيرَ إلى جريانِها من تحتِها، وعُبِّرَ عنهُم بالمتقينَ إيذاناً بأنَّ الإيمانَ والعملَ الصالَح من بابِ التقوى الذي هُو عبارةٌ عن فعلِ الواجباتِ بأسرِها وتركِ السيئاتِ عن آخرِها، ومَثَلُها: وصفُها العجيبُ الشأنِ. وهُو مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ فقدَّرهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيلٍ: مثلُ الجنةِ ما تسمعونَ. وقولُه تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ} إلخ مفسرٌ لَهُ وقدَّرهُ سيبويهِ فيما يُتلَى عليكُم مَثَلُ الجنةِ، والأولُ هو الأنسبُ لصدرِ النظمِ الكريمِ، وقيلَ المَثَلُ زائدةٌ كزيادةِ الاسمِ في قولِ مَنْ قالَ:إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عليكما ***والجنةُ مبتدأٌ خبرُهُ فيها أنهارٌ إلخ. {مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ} أيْ غيرِ متغيرِ الطعمِ والرَّائحةِ. وقرئ: {غيرِ أَسِنٍ}. {وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} بأنْ صارَ قارِصاً وَلاَ خَازِراً كألبانِ الدُّنيا. {وأنهار مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ للشاربين} لذيذةٍ ليسَ فيها كراهةُ طعمٍ وريحٍ ولا غائلةُ سُكرٍ ولا خُمارٌ، وإنما هيَ تلذذٌ محضٌ. ولذةٍ إمَّا تأنيثُ لذَ بمعنى لذيذٍ، أو مصدرٌ نُعتَ به مبالغةً. وقرئ: {لذةٌ} بالرفعِ على أنَّها صفةُ أنهارٌ، وبالنصبِ على العلَّةِ أي لأجلِ لذةِ الشاربينَ {وأنهار مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} لا يُخالطُه الشمعُ وفضلاتُ النحلِ وغيرُها. وفي هذا تمثيلٌ لما يَجْري مَجرى الأشربةِ في الجنةِ بأنواعِ ما يُستطابُ منها ويُستلذُّ في الدُّنيا بالتخليةِ عمَّا يُنغصها ويُنقصها والتحليةِ بما يُوجبُ غزارتُها ودوامَها. {وَلَهُمْ فِيهَا} مع ما ذُكَر من فنونِ الأنهارِ {مِن كُلّ الثمرات} أيْ صنفٌ من كلِّ الثمراتِ {وَمَغْفِرَةٌ} أي ولهم مغفرةٌ عظيمةٌ لا يُقادَرُ قَدرُها.وقولُه تعالى: {مّن رَّبّهِمُ} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لمغفرةٌ مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنةٌ من ربِّهم. وقولُه تعالى: {كَمَنْ هُوَ خالد فِى النار} خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ أمَّنْ هو خالدٌ في هذه الجنةِ حسبما جرى به الوعدُ كمن هو خالدٌ في النَّارِ كما نطقَ بهِ قولُه تعالى: والنَّارُ مَثْوىً لَهُم، وقيل هو خبرٌ لَمثَلُ الجنةِ على أنَّ في الكلامِ حذفاً، تقديرُهُ أمثلُ الجنةِ كمثلِ جزاءِ من هُو خالدٌ في النَّارِ أو أمثلُ أهلِ الجنةِ كمثلِ من هو خالدٌ في النارِ، فعُرّيَ عن حرفِ الإنكارِ وحُذفَ ما حذفَ تصويراً لمكابرةِ مَن يُسوي بين المتمسكِ بالبينةِ وبين التابعِ للهوى بمكابرةِ من سوَّى بين الجنةِ الموصوفةِ بما فُصِّلَ من الصفاتِ الجليلةِ وبين النارِ. {وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً} مكانَ تلك الأشربةِ {فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} من فرْطِ الحرارةِ قيل إذا دنَا منهم شَوَى وجوهَهم وانمازتْ فروةُ رؤوسِهم فإذا شربوُه قطَّع أمعاءَهم.